الاردن: التقاضي عن بُعد في عهد ما بعد كورونا | كتاب عمون

نظام الارشفة الالكترونية



سيكون لجائحة الكورونا آثارٌ عميقةٌ على الصعيدين الدولي والوطني، وستغير هذه الجائحة العديد من الانماط السلوكية والعادات التي درج عليها الناس. في الاردن لا بد من مراجعة شاملة لانماط معيشتنا واجراءات العمل ومنها آليات التقاضي وهي مسألة تتيح خلفيتي القانونية لي طرحها للنقاش العام.

إستنسخَ النظام القضائي الاردني منذ تأسيسه اجراءات المدرسة الفرنسية وهو الذي يقوم على عقد جلسات محاكمة دورية يحضرها المحامون امام الهيئة الحاكمة وقد حددت المادة (77) من قانون اصول المحاكمات المدنية رقم (24) لسنة 1988 تلك المدة بأن لا تزيد عن خمس عشرة يوما، وذلك على خلاف النظام الانجلوسكسوني للمحاكمات (الولايات المتحدة الامريكية والمملكة المتحدة) وما استنسخه منه التحكيم الدولي بأن اجاز للمتخاصمين من خلال محاميهم تحضير دعاويهم بمعزل عن الهيئة الحاكمة ومن ثم اجراء جلسة محاكمة نهائية تقدم بها المرافعات الختامية ويتم بعدها النطق بالحكم.

نتيجة ضغط العمل والحجم الهائل للقضايا المنظورة امام القضاء الاردني فقدت مهنة المحاماة (إجرائياً) احدى اهم خصالها وهي المرافعات الشفهية والتي تمكن المحامي من بسط دعوى موكله وشرح اسبابها الموضوعية والقانونية وذلك بأن جرى اختزال ذلك (في معظم الاحيان) بالمذكرات الخطية بحيث اضحى المحامي وسيطا لتقديم اوراق ومذكرات، وفي هذا ايضا ما له من أثر على تركيز الافكار القانونية والاسانيد التشريعية في ذهن القاضي ما ينعكس في احيان عدة على جودة الاحكام القضائية.

ومن خلال ممارستي لمهنة المحاماة على مدى ناهز ربع قرن ومشاهداتي للازدحام الذي يخنق ردهات المحاكم يوميا نتيجة العدد الهائل من المحامين والمراجعين، تكونت لدي القناعة بأن جلسات المحاكمة في الدعاوى الحقوقية امام محاكم الصلح والبداية والاستئناف بالصورة التي تجري بها حاليا لا قيمة قانونية او فقهية لها (باستثناء سماع ومناقشة الشهود والخبراء)، لا بل فقد اضحت مضيعة لوقت وجهد القضاة والمحامين على السواء ولا تستقيم مع تطور الحياة وتعقيداتها وقيمة الوقت، ومع ظهور جائحة كورونا فسوف يكون لها ايضا (اي اجراءآت التقاضي الحالية) أثارٌ صحية سلبية على المجتمع.

ومن هنا، فإن ما نمر به هذه الايام في الاردن يحتم علينا اعادة النظر باجراءآت المحاكمات القضائية بحيث نقوم بها عن بعد من خلال استخدام وسائل التكنولوجيا والاتصال المرئية والمسموعة. وللتدليل على ذلك مثالا لا حصرا، ولما كانت هذه المقالة لا تتسع لتحليل كلُ اجراءٍ على حده حسب ما يدور من تفاصيل في ذهن الكاتب لمشروع التقاضي عن بعد وانما هدفها طرح فكرة عامة، فمن الممكن القيام بجميع جلسات المحاكمة التي لا يوجد بها اجراء (مثلاً انتظار ورود تقرير خبرة) على الهاتف فيما بين هيئة المحكمة والمحامين المعنيين، ومن الممكن ايضا تبادل اللوائح والمرافعات والبينات الخطية بواسطة البريد الالكتروني او البريد المسجل على عناوين يجري اعتمادها من هيئة المحكمة عند بداية الدعوى والسماح للخصوم بتقديم شهادات شهودهم وخبرائهم بشكل خطي مشفوعة باليمين وتُرسَلُ الى العناوين المعتمدة، ومن ثم تجري جلسة المحاكمة النهائية مرة واحدة وبحضور الفرقاء يبسط بها المحامون اقوالهم ومرافعاتهم النهائية وتصدر المحكمة بعد ذلك حكمها وترسله للاطراف على العناوين المعتمدة ودون الحاجة الى حضور المحامين قاعة المحكمة.

إن هذه الاجراءآت وفقا لهذا الطرح ليست ابتكارا جديدا، فاعمال التحكيم بشكل عام واجراءآت التقاضي في الدول المتقدمة تتم وفقا لذلك. ولقد استلهمت اللجنة الملكية لتطوير القضاء قبل عامين هذا التوجه وجرى ادخال تعديلات عدة على قانون اصول المحاكمات المدنية تسمح باستخدام الوسائل الالكترونية والاتصال الحديثة في اجراءات التقاضي المدني (المواد 5، 7، 11، 12، 21، 58، 80، 81) وجرى تبعا لذلك اصدار النظام رقم (95) لسنة 2018 “نظام استعمال الوسائل الالكترونية في الاجراءآت القضائية المدنية” (والذي شارك في اعداده ثلة من القضاة والعاملين في مجال القانون) وتضمن بدوره احكاما تجيز ايداع وتبليغ وتبادل اللوائح والاوراق القضائية الكترونيا، واعتماد البريد الالكتروني والرسائل الهاتفية النصية واي تطبيقات ذكية اخرى يوافق عليها وزير العدل في اعمال التقاضي، والزام المحامين بتقديم معلومات الكترونية عنهم يتم بموجبها بناء قاعدة بيانات لدى وزراة العدل، وسماع شهادة الشهود عن بعد بواسطة وسائل الاتصال المرئي او المسموع.

إن تفعيلَ احكام المواد القانونية سالفة الذكر والاسراع في تطبيقها ضرورةٌ ملحة، وقد تبقى الاشكالية القانونية لدى البعض في كيفية التعامل مع المادة (77) من قانون اصول المحاكمات المدنية والتي لا تجيز تأجيل جلسة المحاكمة لمدة تزيد عن (15) يوما، وهو جوهر الهدف من هذا المقال لجهة التوقف عن هذه الممارسة نتيجة الظرف الصحي العام للمملكة. وباعتبار ان تعديلا تشريعيا على النص المذكور ليس متاحا في القريب العاجل الا انني ارى بأنه ومن خلال القراءة المتأنية له يتبين بأن نص المادة المذكور لا يتضمن شرط الحضور الفعلي للوكلاء لأجل غاية التأجيل، ومن هنا وحيث ان نية المشرع والجسم الحقوقي في المملكة قد اتجهت مؤخرا من خلال التعديلات التشريعية التي اسلفت الى استخدام وسائل التكنولوجيا في التقاضي، فإنه من الممكن الاستنباط انه يجوز عقد جلسات المحاكمة بين المحكمة والمحامين في الدعوى كل (15) يوما من خلال تقنيات الاتصال المسموع او المرئي يتم بها اتخاذ ذات الاجراءات كما لو حضر الاطراف فعليا قاعة المحكمة. كما أن توافق المحامين في الدعوى على استخدام الوسائل التكنولوجية يصبغ الرضا على الاجراء.

إن من شأن هذا كله، فضلا عن ما له من أثر في تخفيف الازدحمات المرورية والمحافظة على البنى التحتية والابنية الحكومية والبيئة في المملكة والمحافظة على هيبة جلسات المحاكمة ووقارها وتوظيف وقت القاضي بشكل افضل لبحث ودرس ما لديه من قضايا ووقت وجهد المحامي في تحضير دعاويه بما ينعكس ايجابا على جودة عمل المحامي وحسن سير مرفق العدالة ضمانا لحقوق الناس، المحافظة على الصحة العامة من خلال التباعد الاجتماعي الذي فرضه علينا فيروس كورونا نمطا سلوكيا اجتماعيا لا مفر منه، وهو الامر الذي سينعكس بالاجمال وفراً اقتصادياً على الخزينة العامة.

إن التقاضي عن بعد لم يعد في عالمنا الحالي ترفاً فكرياً وانما متطلبا اساسيا لتقدم البلاد والولوج الى عهد ما بعد الكورونا.



المحامي

تاريخ النشر: 2020-04-09 12:07:25

الناشر/الكاتب:

| وكالة عمون الاخبارية – تفاصيل الخبر من المصدر

نظام الارشفة الالكترونية