عُمان: جريدة الرؤية العمانية – الحلال والحرام في المعاملات المالية (1-2)

نظام الارشفة الالكترونية


جمال النوفلي

“قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون”.. فكرة الحلال والحرام هو أهم وأساس ما يميز التعاملات المالية الإسلامية عن غيرها من التعاملات المالية المدنية الحديثة؛ لأنَّ التجارة العادية والحياة والأعمال بشكل عام في العالم المتحضِّر لا تتأثر بمبدأ الحلال والحرام، ولا تحفل البتة بما إنْ كانت معاملاتها قائمة على أسس مشروعة دينيا أم لا، لكننا مع ذلك نجدها ملتزمة بدرجة عالية بمبادئ أخلاقية وعرفية سامية تكاد تكون قريبة جدا من مبادئ الحلال أو الحرام، أو أفضل منها، وأكثر صرامة وعدلا.

السَّبب في ذلك عائدٌ إلى أنَّ غاية مبادئ تلك المعاملات هو تحقيق الخير والعدالة للإنسان والوجود عامة، وليست مقصورة على اتباع تعاليم محكمة لا تتغيَّر منذ مئات السنين؛ فهي مثلا ترفض الغش في التعاملات، وتعاقب السارق والمختلس، وتلتزم بالشفافية والعدالة في تعاملات الأطراف، ونبذ الكذب والنفاق والواسطة والرشوة… وغيرها؛ مما يُؤدي إلى فساد المجتمعات وضياعها، أي أنها تلتزم بكل ما يحافظ على بيئة مالية سليمة وصحيحة، لأن بيئة العمل الفاسدة تقود بطبيعة الحال إلى نتائج فاسدة وكارثية، والمتعاملون في هذا النوع من البيئات عادة ما يتحلّون بوعي جيد عن السلوكيات الخاطئة التي ينبغي عليهم تجنبها والتي عادة ما تكون مُدعمة بقوانين ومؤسسات قضائية صارمة. أما في الدول التي تدعي بأنها إسلامية، فإنَّ المنطق الذي يسيِّر المعاملات المالية والتجارية هو منطق ومبدأ الحلال والحرام، الذي وضعه رب العالمين لعباده المسلمين؛ فالله عز وجل -وعبر كتابه المبين- حدد جميع الأشياء الحرام، وترك باقي الأمور التي لم يحرمها سابحة في فضاء الحلال، أي الإنسان غير مطالب شرعا باجتناب إلا ما أمر الله باجتنابه في القرآن الكريم فقط، وليس في غيره من الروايات وفتاوى الفقهاء.

طبعًا هذا رأي فريق من علماء المسلمين المتسامحين في الدين، الذين اتخذوا من قوله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” شعارا لهم. أما الفريق الآخر، وهم من السَّواد الأعظم، فهم يرون أنَّ دائرة الحرام لا تقتصر فقط على ما حرَّمه الله في كتابه الكريم، بل هي مُستمرة في التوسع والتغير مع توسع الحياة وتجدد الأشياء، طبعا هذه الفكرة جيدة لتجديد الدين، لكنها أيضًا تُعطيهم الحق في تمثيل دور الوساطة بين الله وعباده، فيخبرون الناس بأنَّ الله حرم ذاك وحلل ذلك، وهو الدور ذاته الذي كان يقوم به الرهبان والأحبار قبل مجيء الإسلام الحنيف؛ إذ يقول الله تعالى: “اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ”. والمقصود بأرباب من دون الله أي أنهم يتركون كتاب الله ويذهبون ليسألوا الأحبار والرهبان، حيث كانوا -سواء في الديانتين اليهودية أو المسيحية- يتقمصون دور الرب، فيخبرون الناس ما يجب عليهم فعله وما لا يجب عليهم فعله. هذا الدور في حد ذاته يعطي صاحبه قدسية ومنزلة عظيمة في نفوس المتلقين من الناس المؤمنين بهذه الديانة أو أي ديانة أخرى، على أن المسيحيين -وهم أقرب تجربة وشبها إلى المسلمين- لم يتمكنوا من السيطرة على تمادي أصحاب الدين في توسُّعهم في دائرة التحريم، والتي أصبحت تتدخَّل حتى في شؤون الناس الخاصة كالمعاملات الشخصية والسلوكيات البسيطة، وحتى أيضا في الأمور العامة التي تتعلق بشؤون الحكم وإدارة الشؤون السياسية والاقتصادية للبلاد، والتي لم تسلم من فتاويهم وتدخلاتهم التي أوردتهم موارد الهلاك من الاستغلال والطبقية والفقر والجهل وانتشار الفساد؛ الأمر الذي دفع الناس إلى الثورة على السلطة الدينية وتحديد دورها ونفوذها في الكنيسة فقط.

ومن الطريف أنْ نذكر أنَّ في بداية الألفية الماضية طالبَ المتدينون المسيحيون بوجود بنوك مسيحية لا تتعامل بالربا، وفعلا كات كانت هناك بنوك مسيحية في أوروبا تحرم التعاملات بالربا، لكن لم يُكتب لها الاستمرار، بسبب انحسار الدين والتدين من قلوب الناس، وانتشار ما يسمونه بعصر الحداثة والتنوير في عموم أوروبا، طبعا ليس بالضرورة أن يحصل لدى المسلمين هو بالضبط ما حصل عند المسيحيين؛ فالمعطيات قد تكون مختلفة شيئا ما بين الديانتين، لا سيما أنه لا توجد هناك أي بوادر لثورة تنويرية أو علمية في العالم العربي، والذي هو بكل تأكيد منبع الديانة الاسلامية الغراء. خاصة وأن الله -عزَّ وجل- أعاب على المسيحيين منذ البداية أنهم اتخذوا من الرهبان والأحبار أربابا لهم من دونه فزاغوا عن الحق، وهو ما لم يفعله مع المسلمين، فليس في الاسلام رهبان ولا أحبار، لكن إن استمر المفتون والمتشددون في توسيع دائرة المحرمات أكثر مما ينبغي حتى يضيقوا الخناق على الناس، فسوف يؤدي ذلك بكل تأكيد إلى الانفجار والثورة على المسجد.

الفكرة التي كان ينبغي علينا أن نتفهمها من خلال هذا المقال هي فلسفة مبدأ الحلال والحرام؛ لأننا إن لم نفهم كيف يكون الحرام حراما والحلال حلالا، فإننا لا نستطيع أن نفهم كُنه المعاملات المالية الإسلامية، التي تقوم أساسا على هذا المبدأ، والإجابة عن هذا التساؤل هي من الإجابات العسيرة المحفوفة بالمخاطر؛ لأن البعض يرى أنك حين تتساءل لتعرف لماذا حرم الله هذا؟ ولماذا لم يحرم ذاك؟ فكأنك تتدخل في مشيئة الرب، أو تعترض عليها، وهو ما يتعارض مع وضعك كمؤمن ومذعن تمام الإذعان لدين الله، والحق أن هذه النظرة التكفيرية هي غير منطقية وغير صحيحة، فمن حق أي إنسان -سواء كان مؤمنا أو لا- أن يفهم الرسالة الموجَّهة إليه بشكل مباشر دون تدخُّل وسيط، كما أنَّ المرسل حين يُرسل رسالة مُهمَّة يتعلق بها مصير المرسل إليه، فإنه يحرص على أنْ يُرسلها إليه بشكل واضح جدا ودقيق؛ بحيث لا يدع له مجالا للشك أو الخطأ أو سوء الفهم، فما بالك إن كانت الرسالة من رب العالمين إلى عباده، والتي فيها وضع فيها التعليمات التي سيحدِّد بها مصيرهم إما إلى الجنة أو النار.

وللحديث بقية…،



المحامي

تاريخ النشر: 2019-01-15 18:37:56

الناشر/الكاتب: https://alroya.om

جريدة الرؤية العمانية – تفاصيل الخبر من المصدر

نظام الارشفة الالكترونية