جريدة الرؤية العمانية - "يوميّات سراب عفّان" لجبرا إبراهيم جبرا (2

عُمان: جريدة الرؤية العمانية – “يوميّات سراب عفّان” لجبرا إبراهيم جبرا (2

نظام الارشفة الالكترونية

فندق

أ.د. يوسف حطّيني | ناقد وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

العشق الذي يمتدّ نحو الوطن
ثالثاً ـ سراب تلعب لعبة الظلال:
في إزاء شخصيات هذه الرواية علينا ألا نكتفي بتقسيمها إلى رئيسية وثانوية وطيفية عابرة، بل يجب أن ننتبه إلى أن إحدى الشخصيتين الرئيسيتين (سراب ونائل) تتخذ لنفسها أطيافاً موشورية متعددة؛ ويمكن أن نجلّي صورتها في ثلاثة أطياف رئيسية هي: رندة الجوزي وسراب المتخيلة وسراب الحقيقية، وهي تقول عن نفسها: “كنت أمثّل مونودراما أتلبّس فيها على الأقل ثلاثة أدوار، وأتكلّم بثلاثة أصوات”، ص71.
غير أننا قبل أن نتقصّى هذه الشخصية وظلالها، يمكن أن نلاحظ مدى المطابقة التي يقيمها الكاتب بين اسم البطلة سراب، وبين معناه اللغوي، فالسراب “ما تراه نصف النهار كأنه ماء(1)”، “وظبية سارب ذاهبة في مرعاها(2)” و”سمي السراب سراباً لأنه يسرب سروباً أي يجري جرياً(3)”. إذن العلاقة واضحة بين اسم بطلة الرّواية ومسارها الحكائي من جهة، ومعناه من جهة أخرى، إذ إن البطل نائل عمران لم يتمكن من القبض على هوية سراب وأحلامها فكان كالقابض على الماء الذي تخونه فُرُوج الأصابع؛ لأنها قادرة أبداً على الإفلات، والاتجاه نحو فكرة الأرض، الملجأ الأخير لها، ولجبرا نفسه الذي أصرّ على الفكرة نفسها في رواية “البحث عن وليد مسعود(4)”.
في اللقاء الأول.. بينما كان نائل ذاهباً لزيارة صديقه المحامي طلال الصالح، تطلب منه أن يشرب معها القهوة، بدلاً من أن يشربها عند المحامي، ويتفقان على أن يدخلا، ثم يخرجا معاً؛ وإذ يسألها عند اسمها تقول:
“اسمي سراب، سراب عفّان.
فابتسمتُ، وأمسكتُ بذراعها، مستديراً بها في الرّواق: كيف لي أن أقاوم فكرة شرب القهوة مع سيدة تدعى سراب؟ وسأبقى عطشاناً(5)، ولا شك”، ص ص96ـ 97.
كذلك فإنّ سراب تعلّق على اسمها في الحوار التالي الذي يجري بينها وبين نائل عمران:
“ـ من أنت بالضبط؟ هل أنت حقاً سراب؟
(…)
ـ أنا سراب، ولكنني أتمنى أحياناً لو كنت بحيرة. في الواقع، أتمنى لو كنت بحراً، ولكن البحر مالح، فأتمنى لو كنت بحيرة (…) ومن كل بحيرات العالم أتمنى لو كنتُ بحيرة طبريا… أتصدق؟؟”، ص110.
هذه الأمنية تتجسد حتى في تعليقها على السيول الملتصقة على زجاج النافذة في مقهى فندق الأنسام، إذ ترى بين سيول المطر تجمعاً يشبه البحيرة فتنعته بالنعيم:
“هناك بحيرة صغيرة من نعيم مغلق على من فيه”، ص107.
كما أن سراب تعلل في المقطع التالي تسميتها، وتربط بين اسمها وبين الخديعة، وهذا ما جعلها تُرهِصُ بخديعةٍ ما، وهذا ما حدث فعلاً، تقول سراب: “لم يصدق أبي أنني ولدت حيّةً يوم ولدتُ، لكثرة ما طرحتْ أمي قبل ذلك، وقال: سمّوها سراب، لأنني أعلم أنني ما إن أصل إلى مستشفى الولادة حتى أجد أنني خدعت مرةً أخرى”، ص26.
لقد حمل اسم سراب أيضاً وفقاً للمسار الحكائي معنى العطش إلى حلم الماء، وحلم الوطن والاستقرار. فبحيرة طبريا حاضرة في مخيلتها لأنها حلوة وقادرة على مواجهة ملوحة البحر، وعبث السراب، وعسف الغربة، وهذا ما دفعها رمزياً، وبشكل غير مصرّح به، إلى الاتجاه نحوها.
ظهرت سراب إذن، بما تحلمه من دلالات اسمها، ودلالات حضورها، وترجّحها بين العاطفة والعقل، وبين الواقع والخيال، في ثلاث صور، أو ثلاثة أصوات: هي سراب (أ) الواهمة التي تحلم بسير الأحداث على نسق معين، وسراب (ب) الحقيقية الفاعلة في الأحداث، إضافة إلى رندة الجوزي: الصديقة التي ولدتها سراب من ضلعها.
أ ـ رندة الجوزي:
فإذا طالعنا شخصية رندة الجوزي، وهي الظلّ الأول لشخصية سراب، وجدناها مستحضَرة أو مستبعَدة وفق مشيئتها، وقد بدأت الرواية حين كانت رندة الجوزي (التي تكتب سراب يومياتها من خلالها) تبحث عن الخلاص، مثلما ستبحث عنه سراب الحقيقية وحبيبها نائل، وهي تعرض طرق الخلاص المختلفة، تاركة لسراب أن تتخذ القرار بشأنه: “هناك من يطلب النسيان باستغلال الحواس، أو بالاستسلام للحب، أو للفجور، أو ربما بالصلاة، أو بابتلاع أقراص الفاليوم”، ص7. وقد كانت سراب تتدخل في شخصية رندة التي اخترعتها بنفسها، حين يتعلّق الأمر بالأحداث المسرودة في اليوميات، فتدخلها أتّون علاقة الحب الوهمية الناشبة مع نائل، وتجعلها تتصل بنائل/ اليوميّات، مرة باسم رندة، وثانية باسم سراب، في حين لم يكن نائل/ الحقيقي قد التقى سراب بعدُ:
“ـ أفضّل لو أعرف من هي التي تخاطبني.
خطر لي أن أدّعي أن اسمي رندة الجوزي، ولكنني قررت بسرعة أن أحتفظ برندة للعبة أخرى.
قلت: سأذكر لك اسمي الأول. اسمي سراب”، ص28.
وحين يتفقان على اللقاء الوهمي الأول، تستبدل سراب بشخصيتها شخصية رندة التي تجعلها موظفة في المكتب نفسه؛ حيث يأتي نائل/ اليوميّات إلى ذلك المكتب، ويحصد الخيبة:
“ـ الآنسة سراب؟
ـ آسفة ، أنا رندة الجوزي”، ص52.
ثم تعتذر منه في آخر اللقاء المتوهّم عن خروج نسيختها سراب، وانشغالها عن هذا اللقاء: “هذه سراب! دوختني بالحديث عنك، بتوقعها زيارتك، وإذا هي تسمح لنفسها بالانشغال في الساعة الغلط! أرجو أن أكون قد عوّضت، ولو قليلاً عن غيابها، أستاذ نائل”، ص57.
وتبني سراب/ اليوميات على هذه الخدعة خدعة أخرى، إذ تتصل بنائل، وتعطيه موعداً لتزوره في البيت، وحين يحين الموعد يتجهّز نائل للقاء سراب، ولكنه يجد نفسه أمام رندة مرة أخرى، غير أنها تقرر أن تنهي هذه اللعبة، وتكشف نفسها أمامه، ويكون اللقاء حميمياً دافئاً، حتى يكاد القارئ ينسى أنه لقاء ابتدعته سراب في مذكراتها؛ ليس إلا: “نزعتُ سترتي النيلية القصيرة بسرعة، إبرازاً لقميصي البرتقالي الحاسر عن ذراعيّ، وفككت القراصة التي تمسك بشعري مرفوعاً عند مؤخر رأسي، وأسدلت شعري على كتفيّ وظهري، مسرّحة إياه بأصابعي على أفضل ما أستطيع”، ص ص68ـ 69.
وها هنا تخرج سراب العاشقة المتوهمة من ضلع رندة؛ لترسم في خيالها، لقاءً تتمناه في واقعها الذي سيزهر عمّا قريب: “وما كان مني إلا أن أسقطت رأسي إلى الخلف بخصلاتي المهدّلة على صدره، ويداه ما زالتا تمسكان بذراعيّ المرتخيتين. وقد سقطت سترتي أرضاً، وأدرت وجهي ما استطعت نحو شفتيه، وهمست: أنا سراب عفّان”، ص69.
وما دام خيط يوميات سراب مربوط إلى يدها، فإنها تستطيع أن تشده كيفما شاءت، وإلى أي جهة شاءت، وربما تأخذ عنها مهمة السرد، فتقول: “رندة عزيزتي، اسمحي لي بنزع القناع مرة ؟ أخرى، ولو إلى حين.. أنا فتاة، امرأة، دخلتْ في السادسة والعشرين من عمرها (…) أأقول إن هويتي هي اسمي؟ اسمي سراب عفّان. ثم ماذا؟ هويتي هي أنني أريد أن أنفجر شظايا أحياناً، لأنني ما عدت أطيق صبراً على نظام حياتي”، ص14.
ولا تكتفي سراب بالتحكّم في شخصية رندة في اليوميّات، بل تستحضرها إلى واقع نائل بعد أن تلتقيه فعلاً، وتجعل منها وهماً بمرتبة الحقيقة، وتفيد منها في توصيل محمولات شخصيتها الدلالية من خلالها؛ إذ تقول لنائل في أحد لقاءاتهما:
“أتعرف رندة الجوزي؟
ـ لا، من هي:
ـ كاتبة مغمورة (…) قالت إنك قمعتني.
ـ أنا قمعتك؟ أنا الذي لم أكن أعلم بوجودك حتى البارحة.
ـ قمعتني بكتابك الأخير هذا… ما كدت أنتهي من كتابة الرواية حتى رحت أمزق مخطوط رواية كنت على وشك الفراغ منها”، ص117.
وتستمرئ سراب هذه للعبة اللذيذة الخطرة، وتستمر في استجلاب انتباه نائل، وفي تأجيل لقاء مستحيل يجمع الفتاتين (اللتين هما فتاة واحدة) معه، وتحرص على إقحامها في حياتهما إلى درجة صار نائل نفسه يسأل عنها. يقول نائل لسراب:
“ـ من أين أتيت؟ من أرسلك إليّ؟ لماذا لم تسمعي نصيحة صديقتك ـ ما اسمها؟
ـ رندة الجوزي؟
ـ نعم رندة. اسمها جميل، ولا أشك في أنها ذكية كذلك”، ص121.
ولا تتوانى سراب، دون رادع، عن أن تلبس قناع رندة، لتزيد غموض علاقتها بنائل، وتسمح لـ “رندة” أن تتصل مرتين به في الليل؛ إذ تقول له أخته سالمة عن رندة: “سألت عنك بعد العاشرة بقليل، ثم أعادت الكرّة عند منتصف الليل. كيف خطر لأحد أن يتلفن في مثل هذه الساعة”، ص132. وتتصل به “رندة” صباح اليوم الثاني زاعمة أن هاتف منزل سراب أصابه عطل مفاجئ، وتعدُهُ بتبليغ سراب الموعدَ، في المكان نفسه وفي الوقت نفسه:
“ـ في الأنسام، السادسة مساء؟
ـ يظهر أنك تعرفين التفاصيل”، ص134.
ويخيّل إلينا أنّ حالة الاتصال والانفصال بين الشخصيتين قامت بدور إيجابي في بيان الفرق بين طريقة تفكيرهما. صحيح أنهما شخصية واحدة، ولكنّ سراب بوجهيها (المتوهم والواقعي) تسلم القياد لقلبها، بينما تتسلم رندة زمام العقل  الناصح الذي يبعدها عن تهور المشاعر. وحين تحسم سراب خياراتها بشكل نهائي تجاه معشوقيها/ نائل والوطن تلغي أثر رندة، وتطردها من صناعة حكايتها؛ لتصوغ الحكاية من ثمّ وفق هواها:
“وكانت الرشفة الأولى، وأنا أنظر إلى نائل وهو يرشف من كأسه، تأكيداً على ما يسري في جسمي من لذّة مصفّاة، أوحت إليّ بأنني شخصية أسطورية في مسرحية إغريقية..
رندة الجوزي! لن تعرفي هذه اللذة الراعبة جسداً وذهناً معاً (…) انظري إليّ، واسمعي كلماتي وكلماته، واسكتي إلى الأبد”، ص182.
(يتبع) …
هوامش:
1)    القاموس المحيط، مادة سَرَبَ.
2)    لسان العرب، مادة سرَبَ.
3)    المرجع نفسه، المادة نفسها.
4)    في رواية (البحث عن وليد مسعود) يختفي وليد، وتتناوب الشخصيات الحديث عنه في فصول الرواية، بينما تؤشر عدّة سياقات روائية مبهمة إلى أنه ذهب نحو الأرض/ فلسطين.
5)    هكذا في الأصل، والكلمة ممنوعة من الصرف.

 





تاريخ النشر: 2019-07-15 07:49:13

الناشر/الكاتب: https://alroya.om

جريدة الرؤية العمانية – تفاصيل الخبر من المصدر

نظام الارشفة الالكترونية