المغرب: الحرية أولجتني المحاماة .. وهذه ضريبة “البذلة السوداء”

نظام الارشفة الالكترونية

فندق

حاوره عبد الإله شبل

الاثنين 13 ماي 2019 – 11:00

بعيدا عن المحاكم، فضاؤهم الخاص، نفتح من خلال هذه السلسلة الباب أمام القضاة وأصحاب البذلة السوداء للحديث عن مسارهم في رحاب قصر العدالة، نسلط الضوء على بدايات أسماء سطعت في سلك القضاء، واستطاعت أن ترسم لنفسها مسارا حافلا قليل منا من يعرفه. “في رحاب العدالة”، سلسلة تعدها جريدة هسبريس الإلكترونية، تلتقون من خلالها مع وجوه في سلكي المحاماة والقضاء تمكنوا من طبع أسمائهم في هذا المجال، نقربكم منهم ونعرفكم على بداياتهم ونستكشف الطريق التي سلكوها والتي لم تخل من أشواك. في هذه الحلقة، نستضيف المحامي عن هيئة مراكش محمد الغلوسي، ابن مدينة دمنات، الذي تحول في ظرف وجيز إلى أبرز المحامين بالمدينة الحمراء خاصة، وبربوع المملكة عامة، لمواجهته برلمانيين ومنتخبين كبار وجرهم إلى ردهات المحاكم بتهم الفساد. كيف جاء اختياركم لامتهان مهنة المحاماة؟ خلال دراستي بثانوية دمنات، كنت واحدا من النشيطين في الحركة التلاميذية، وتواقا إلى الحرية، حاملا فكرة الدفاع عن المظلومين والوقوف إلى جانبهم، رافضا منطق الحكرة، وكان نشاطي وقيادتي العديد من الاحتجاجات بالمنطقة سببا في عرضي على المجلس التأديبي حينها، لكن الدراسة توقفت بالمؤسسة، إذ طالب التلاميذ بعودتي للقسم، الأمر الذي تأتى حينها ولَم تتخذ في حقي إجراءات تأديبية. شغفي وتعلقي بالحرية استمرا إلى مرحلة الكلية، ومن هنا كان، فإن ميلي إلى الحرية والاستقلالية وحضوري للعديد من المحاكمات جعلني أتعلق بهذه المهنة. لم يكن عشقي لها من باب البحث عن الرزق والعيش، وإنما كمهنة تفتح أبواب الحرية والاستقلالية، مهنة يمكن أن تُمارس فيها القناعات التي تؤمن بها وتجسد الأفكار التي تحملها، بالتالي كان شغفي كبيرا كي أكون محاميا، ولذلك فأول مباراة اجتزتها كانت مباراة مهنة المحاماة، وتمكنت سنة 2003 من النجاح فيها، أديت اليمين القانونية، وأصبحت محاميا متمرنا. هل وجدت فيها ما تؤمن به؟ بالفعل، وجدت أن المهنة مازالت فضاء للحرية والاستقلالية، فضاء واسعا لتجسيد ما أؤمن به من مبادى وقناعات. كيف كان إحساسكم باليوم الأول الذي ارتديتم فيه البذلة؟ لكل بداية دهشة كما يقال، أحسست بنوع من الفخر والاعتزاز وأنا أنتمي أخيرا لهذه المهنة، التي لم آت لها اعتباطيا وإنما قادني إليها إيماني وحلمي والرغبة الجامحة التي كانت تجتاحني منذ فترة الثانوية، إذ كنت أحلم بارتداء هذا اللباس لمواجهة الفساد والدفاع عن المظلومين. كنت فخورا بارتداء البذلة ومعتزا أيما اعتزاز بارتدائها، لأني صرت أنتمي إلى مهنة عرفت تاريخيا بصنعها رجالا مدافعين عن الديمقراطية والحريّة، وكان المحامون في مقدمة الأصوات المزعجة التي تصدح بصوت الحرية. لقد كنت متشوقا لدخول ردهات المحاكم دفاعا عن هذه القضايا العادلة. أما زلت تتذكر أول قضية رافعتم فيها؟ ماذا كان موضوعها؟ بعد أداء اليمين بثلاثة أيّام، وانتمائي للمهنة، فوجئت باعتقال طلبة يساريين محسوبين على الفصيل القاعدي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية بمراكش، فلم أكن مترددا، إذ وجددت أمامي ملفا من النوع الذي يحمل الرسائل التي كنت أدافع عنها وأؤمن بها. آزرت الطلبة حينها وزرتهم بالسجن. كان إحساسا جميلا، وفِي الوقت نفسه كان ملفا ثقيلاً نظرا للتهمة التي ووجهوا بها. رافعت بكل شغف وقناعة وإيمان دفاعا عن هؤلاء الطلبة رغم كونهم ينتمون إلى تيار طلابي آخر، وجسدت إيماني بالحرية والدفاع عن الآخر مهما كان انتماؤه ما دام ينشد الحرية. في مساركم المهني، ما هي أبرز الملفات التي تفتخرون بها وتتذكرونها؟ هناك ملفات تركت بصمات بالنسبة لي طوال هذا المسار بمهنة المحاماة، لكن أقواها ملف أحد مفتشي الشغل يدعى زين العابدين قاشة، الذي كان قد صدر في حقه حكم بالسجن عشر سنوات، غير أنه بعد الطعن لدى محكمة النقض، أعيد الملف من جديد إلى محكمة مراكش، وهنا سجلت نيابتي وآزرته. أتذكر أن مرافعتي دامت أكثر من ثلاث ساعات، انتهى الملف، وكنا ننتظر أن يسترجع حريته، لتصدر المحكمة قرارها القاضي بتبرئة موكلي، الذي كان معروفا لدى زملائه بحسن الخلق، من التهمة بعد إدانته بعشر سنوات، وهذا ترك أثرا عميقا في نفسي. هناك ملف آخر يتعلق بمتابعة نقابيين في مدينة ورزازات في حالة اعتقال سنة 2013، حيث كان لي الشرف بمؤازرة العديد منهم رفقة النقيب عبد الرحمان بنعمرو، وأتذكر أن محاكمة أربعة أفراد منهم استمرت لثلاثة أيام متتالية، وهو ما تسبب في تعب النقيب وسقوطه أرضا، وقمنا بنقله إلى المستشفى. الجميل أنه بعد هذه المعركة القانونية انتهى الملف بتبرئة هؤلاء من التهم المنسوبة إليهم. أيضا ملف حميد مجدي، الحقوقي والنقابي الذي اندست في سيارته كمية من الكوكايين بمراكش، إذ خضت معركة قانونية وقضائية بشكل كبير إلى جانب محامين آخرين إلى أن توج بالحصول على البراءة. في كل مهنة أو هواية تكون هناك قدوة، من يكون قدوتكم من أصحاب “البذلة السوداء”؟ هناك أجيال من المحامين ممن يشكلون لي قدوة، سواء الذين تابعتهم أو سمعت عنهم، أو من قرأت عنهم وتأثرت بهم، وفِي مقدمتهم النقيب عبد الرحمان بنعمرو، حسن وهبي، الطيب الساسي، وعبد الرحيم الجامعي، كنت أرى فيهم تلك الصخرة التي يتكسر عليها الظلم. كنت اعتبر هؤلاء، إلى جانب آخرين، مثل الفقيد بنجلون، ومحامين من تيارات أخرى، هم رموز المهنة، إذ كانوا يشكلون قدوة في الدفاع عن رسالة المحاماة ورسالة العدالة وقيم الوفاء والإخلاص في أداء الرسالة. تبنيتم في مساركم ملفات تتعلق بالفساد، ماذا شكلت لك هذه التجربة؟ هذه الملفات في الحقيقة، التي كان لي شرف تبنيها إلى جانب ثلة من المناضلين، جعلتني أقترب من الواقع الحقيقي للمجتمع، وأراكم تجربة مهمة في فترة وجيزة. الاحتكاك بهذا الجانب والاطلاع على هذه الخيوط يدفعاني إلى القول بكون معركة الفساد شاقة وصعبة وخطيرة. العديد من الملفات المعروضة على القضاء التي تقدمنا بها شكلت لدي صورة حول منظومة العدالة، وتجعلني أتساءل عن كيفية مساهمة هذا الجهاز في محاربة الفساد والرشوة وهو يتخبط فيهما، ما يعني أن الفساد له امتداد ليس فقط في المؤسسات المنتخبة ولكن أيضا بمؤسسات مختلفة، ضمنها منظومة العدالة. وكانت هذه الملفات في مساري المهني فرصة للوقوف على حقيقة بعض المنتمين إلى اليسار زورا، الذين انخرطوا في حملة يقودها الفاسدون، وتلقيت الضربات ممن يفترض فيهم أن يكونوا في صف مواجهة الفساد والرشوة، وكانوا ينتظرون سقوطي. هؤلاء، للأسف، نسجوا قصصا بتوفري على فيلا في الرياض بالرباط وتسلمي رشاوى هنا وهناك، وأن خوضي هذه المعارك القانونية ضد الفساد كان بدافع البحث عن الشهرة، إذ لم يستسغ بعض المعتقلين السياسيين السابقين تواجد شاب من خارج مدينة مراكش متصدرا الواجهة، بدلا عنهم. هناك من اعتذر في النهاية بعد اكتشافه زيف الادعاءات، وتيقنه من كون معركتنا كانت وما تزال ضد الفساد والرشوة والمفسدين، خصوصا وأننا تمكنا من جعل هذه المعركة وطنية. كيف ترون اليوم واقع المهنة في ظل استقلالية القضاء؟ المهنة عرفت اليوم تحولات كباقي المهن الأخرى ولحقتها تحولات مجتمعية كبرى، وبات المحامون اليوم يواجهون واقعا آخر، وبرزت أمور لم تكن في السابق، إذ يوجد زملاء يعانون الفقر، والسبب يرجع إلى كون الدولة لم تقدم للمهنة أي شيء، مثل التقاعد، الذي لا تفكر فيه، ثم الضرائب التي أثقلت كاهلهم، حيث تنظر الحكومة للمهنة كباقي المهن الأخرى وتفرض علينا الضرائب وكأننا نمارس التجارة. المحامون اليوم يواجهون مشاكل اجتماعية، هناك شريحة تنتمي إلى فئات فقيرة وبالكاد تواجه مصاريف المكتب وأداء الضرائب، فيما كان المحامي إلى وقت قريب ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وهو ما يستوجب من الحكومة أن تراجع نظرتها للمهنة على الأقل من الناحية الضريبية، وفي المقابل على المحامين أن يناضلوا كي لا ينظر إليهم كتجار. المحاماة تبقى مهنة شامخة للدفاع عن القيم والقانون، وبالتالي من المجحف أن ننظر إليها وكأنها تجارة، لذا يجب تغيير هذه النظرة وتحسين الأوضاع الاجتماعية لممارسي المهنة ومحاربة كل الظواهر الشائبة التي تلتصق بها وبمنظومة العدالة بشكل عام كالفساد والرشوة، وعلى المحامين التصدي لهذه الظواهر. على الحكومة أيضا أن تكف عن امتصاص غضب الشباب واعتبار مجال المحاماة مجالا لخفض البطالة، ويجب النظر إليها كمهنة نبيلة، وإلا فلِمَ لا ينظر بالنظرة نفسها إلى القضاء الذي ولوجه ليس سهلا؟ ناهيك عن غياب معهد لتكوين المحامين، وعدم استفادة المحامين من التغطية الصحية وغيرها. ما هي رسالتكم للمحامين الشباب ومن يرغب في ولوج هذه المهنة؟ كل من يرغب في ولوج المهنة عليه أن يقاوم الظواهر السلبية، كالرشوة والفساد، والتصدي لها بحزم، وأن يكون متسلحا بقيم الحرية والكرامة والاستقلالية، والتشبع بقيم الديمقراطية، وألا ينجر وراء بعض المغالطات التي تقول بأن المحامي الذي ينجح عليه اتباع الطريق السهل. هناك مناخ عام في البلاد يشجع على الفساد والرشوة والتسلق الاجتماعي بأشكال غير مقبولة، لكن على المحامين الشباب أن يشكلوا صمّام أمان أمام هذه الظواهر، وأن يقتنعوا بالعيش في وضع مادي دون جعل الناس ينظرون إليهم كتجار في القيم.



تاريخ النشر: 2019-05-13 14:00:00

الناشر/الكاتب:

Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية – تفاصيل الخبر من المصدر

نظام الارشفة الالكترونية