المغرب: العدالة والتنمية في مواجهة أساتذة التعاقد

نظام الارشفة الالكترونية

فندق

مصطفى العارف*

الثلاثاء 02 أبريل 2019 – 11:59

شخصنة السياسي وتسييس الشخصي منذ أن اعتلى حزب العدالة والتنمية رئاسة الحكومة وهو يجر وراءه المشكلة تلو الأخرى، ومنذ أن قبض بدواليب تسيير الإدارة وهو يخلق مشاكل جمة لا حصر لها. فبدءا بمشكل فصل التوظيف عن التكوين، مرورا بمشكل التقاعد وصولا إلى مشكل الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد- ونحن عندما نصفهم بهذا التوصيف لا نتخندق إلى جهة على حساب جهة أخرى، بل فقط لأن العقد يجب أن يكون متوافَقا عليه من الطرفين، وأن يكون من وضع طرفي التعاقد- دخلت حكومة العدالة والتنمية في خصومة مع فئات عريضة من الشعب المغربي تحت ذريعة “الإصلاح”. لن نناقش ههنا سياسة حزب العدالة والتنمية فهذا أمر متروك للمحللين في العلوم السياسية، ولن نتطاول على الأسس الاقتصادية لهذا المسمى “إصلاحا” فتلك مهمة المتخصصين في الاقتصاد العارفين بدواليب مالية الدولة. بل إن كل غرضنا سينصب على تفاصيل نفسية دقيقة يتداخل فيها ما هو موضوعي بما هو ذاتي، وما هو سياسي بما هو شخصي، حتى بدا لنا أن السياسة وفقا لممارسة الحزب “الحاكم” مجرد انفعالات ومزايدات وعِنْدٍ لا حدود لها. فمنذ مشكلة الأساتذة المتدربين دخل بنكيران في تحدّ شخصي ونفسي مع هؤلاء الأساتذة فقط لأنه لم يقبل الرضوخ لمطالبهم وضغوطهم، وحتى إن كانت هذه المطالب عادلة ومشروعة- وليست شرعية هناك فرق- فإن السيد رئيس الحكومة جعل من الأمر مشكلة شخصية مع هؤلاء حتى أنه أقسم بأغلظ الإيمان عدم التنازل عن برنامج فصل التوظيف عن التكوين، وعندما بدا له التعاطف الشعبي الكبير مع هؤلاء، دخل في مساومة شخصية من خلال ترسيب عدد من الأساتذة انتقاما من تمريغ سمعة الحزب في الأوحال. ليس هذا فحسب بل إن حتى أتباع الحزب بدون استثناء تقريبا لم يتوانوا عن ضرب نضالات هذه الفئة سعيا منهم لتشتيت نضالهم وإلهاء الرأي العام، حتى بدا أن المشكلة ليست سياسية محضة بقدر ما هي شخصية تخلط بين ما هو ذاتي خالص (الحزب، شخصية القادة، كلمتهم…)، وبين ما هو موضوعي خالص (التدبير السياسي)، وخرج قادة الحزب “الحاكم” بمقولة “هبة الدولة” اعتبارا أن الدولة لها هبة لا يمكن أن تتنازل عنها، والحال أن هبة الدولة من هبة شعبها وليس العكس، كما أن هبة القانون من هبة المواطنين وليس العكس أيضا. اليوم نلاحظ نفس السلوك الشخصي والذاتي مع مشكلة الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، فالمتتبع لبيانات الوزير الخلفي وتصريحاته ورئيس الحكومة سعد الدين العثماني تُبين بالملموس كيف أنه لا يقبل إخضاع الحكومة من طرف هؤلاء الأساتذة، حتى أنه يبدو جليا الخلط الواضح بين ما هو سياسي تدبيري الذي يدخل في مجال السياسات العمومية، وبين ما هو شخصي وذاتي، فيتحول الأمر من مشكل سياسي تدبيري إلى مشكل شخصي تتخالط فيه النزعات الذاتية والنفسية وعدم إمكانية الخضوع والرضوخ للآخر. والحال أن المطلع على أدبيات الحزب ” الحاكم” يمكنه أن يجد تفسيرا لهذا الخلط، ذلك أن علاقة “المناضلين” بالقيادة ليست علاقة مستوية، وإنما هي علاقة فوقية تبرز القادة باعتبارهم “أولي الأمر” الذين يجب طاعتهم مادام أغلب المنتمين للحزب ينتمون لحركة التوحيد والإصلاح ذات التوجه الديني الدعوي، ولنا مثال في ذلك ما فرضه بنكيران على أتباعه خلال تظاهرات 20 فبراير بعدم النزول إلى الشارع، ثم إجبارهم على عدم التعليق أو انتقاد سياسة الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يفسر أن العلاقة بين القائد و”المناضل” هي علاقة طاعة تتمظهر في عدم النقاش والجدال والمعارضة. لذلك لا غرو أن نلاحظ اليوم الملامح المتشنجة للسيد مصطفى الخلفي وهو يلقي بالتصريحات نتيجة تفاعله النفسي والسيكولوجي مع واقعة هؤلاء الأساتذة. يتجلى هذا الجانب السيكولوجي في تصريحات الوزير عندما يؤكد أن الحكومة لبت مطالبهم بإنهاء التعاقد أولا، ثم بحذف تسمية المتعاقدين بحيث أصبحوا أساتذة الأكاديمية الجهوية للتعليم، ثم ثالثا بوضع نظام أساسي لهم، وهو ما يفيد أن الحكومة تنازلت بما فيه الكفاية ولا يمكنها أن تتنازل أكثر من ذلك وإلا بدت هذه الحكومة لا شخصية ولا هبة لها! وحتى عندما يؤكد السيد الوزير أن المصلحة العليا هي مصلحة التلاميذ والتلميذات فإن الأمر ليس سوى مغالطة كبيرة تكشف عن عِنْدٍ سيكولوجي خفي لا يريد السيد الوزير وحكومته كشفه علنا، فإن كان حقيقة أن الحكومة تهمها مصلحة المتمدرسين فبالأحرى كان عليها أولا الحوار مع هؤلاء الأساتذة باعتبارها سلطة تنفيذية، وإن كانت فعلا تخشى على مستقبلهم الدراسي من شبح السنة البيضاء، كان عليها أن تجد حلا جذريا للمشكلة، لا أن تستزيد في عنادها وتعنتها اللذان يكشفان عن مقولة العناد الشهيرة “حتى لو طارت فإنها معزة”. بل إن حتى بنكيران وبعد إعفائه خرج لينتقد هؤلاء الأساتذة من منطلق ديني هذه المرة بدعوى أنهم سيحاسبون يوم القيامة على إخلالهم بواجبهم المهني اتجاه التلاميذ، والحال أن إقحام المنطق الديني في هذا الباب لا يستقيم إطلاقا في هذا المقام، كون محاسبة المسؤولين عن الإخلال بواجبهم المهني يجب أن يكون في الدنيا قبل الآخرة. إن نضال هاته الفئة من الأساتذة أمر مفهوم وطبيعي جدا، فالشعوب لا تملك سوى أن تناضل وتحتج ضد ما تراه غير مناسب لها ومضرا بمصالحها المادية والاجتماعية… وعليه فإن إضرابهم، وإن كان فيه لَيٌّ لعنق الحكومة بالضغط عليها، أمر طبيعي وعادي جدا، لكن ما ليس طبيعيا هو المواجهة الشرسة التي تسلكها الحكومة وخصوصا حزب العدالة والتنمية ضد هاته الفئة وباقي الفئات الأخرى، فالإضراب حق مشروع، لكن الاقتطاع أمر قانوني، ههنا نقاش يُثار بين ما الحق؟ وما القانون؟ هل الحق أسبق من القانون أم العكس؟ بيْد أن هذه التساؤلات ليست بالتعقيد الكبير، فكل قانون إنما غايته حفظ الحق أولا وأخيرا، حتى إن تم خرقه، فالقانون يسمح ويشرّع حق الإضراب الذي قد يكون إضرابا ضد نفس القانون، ههنا المفارقة الكبيرة التي وجب الانتباه لها مفادها أن الإضراب حق مشروع قانونيا بمعنى أن الأولوية للحق الناتج عن القانون وليس العكس. ليس القانون مقدسا حتى وإن كان كذلك، فغايته ليست في ذاته، وليست في تطبيقه، بل في ما يحفظه من حقوق وتحقيق للعدالة. سقط حزب العدالة والتنمية في فخ الانفعال النفسي والسيكولوجي، ودخل في متاهة اللاعودة رافعا سلاح العزل من الوظيفة، ولنفرض أنه اتخذ هذا الإجراء وقام بعزل هؤلاء، هل ستنهج الحكومة نفس النهج مع الذين سيخلفونهم؟ ألا يمكن لهؤلاء أيضا أن يخرجوا للشارع مطالبين بنفس مطالب السابقين؟ ألا يمكن القول أن التهديد يمكنه أن يُدخل حزب العدالة والتنمية في دائرة مفرغة لا نتيجة من ورائها؟ إن مشكل هؤلاء الأساتذة يحتاج إلى روية سياسية تخرج به إلى بر الأمان، ولن يكون ذلك ممكنا إلا بالحوار بين الطرفين، لأن الحوار بدون خلفيات مسبقة وبدون شروط قبلية يمكنه أنه يؤدي إلى تليين المواقف، فعندما تهدأ النفوس تستجيب لإمكانية التنازل، وعندما يهمّ طرف الحوار بالتنازل قليلا لا يجد الطرف الآخر من سبيل سوى التنازل هو أيضا، أما سياسة الهروب للأمام متمثلة في رفض الحوار مع هاته الفئة بدعوى أنها غير منتمية نقابيا يكشف أن الحكومة وحزب العدالة والتنمية خاصة يرفض تماما الاعتراف بمن خالفه الرأي، وانتقده وتمرد عليه وخرج عن طاعته. هذا على جهة شخصنة ما هو سياسي، أما على جهة تسييس ما هو شخصي فإن الحزب لم يتردد في كل لحظة في تسييس ما هو شخصي بطريقة أو بأخرى، فعندما تعلق الأمر بمحاكمة حامي الدين في قضية مقتل آيت الجيد لم يتردد الحزب عن مساندته، بيْد أن المساندة حق مشروع، لكن ما أثار انتباه الرأي العام هو تصريح بنكيران : “لن نسلمكم أخانا حامي الدين”، وهو تصريح يبين أن الحزب لا يثق بالقضاء ولا بأحكامه معتبرا أن القضية سياسية تبغي ضرب “شعبية” الحزب، وعندما تعلق الأمر بمحاكمة معتقلي الريف يصرح الوزير الرميد أن الملف بيد القضاء ولا يمكنه أن يتدخل في عمله، لكنه يعود ويجتهد اجتهاد المحامي والعارف بالقانون عندما يعتبر أن محاكمة حامي الدين باطلة قانونيا، هكذا فإن كل ما يمس الحزب وشخصياته إنما واجب عليهم التدخل في القضاء وأحكامه ومعارضتها، وكل ما يتعلق بالخصوم أو لا علاقة له بالحزب فالقضاء مستقل وله كلمته العليا. ولا يجد الحزب الحاكم اليوم حرجا في الدفاع عن الريع المؤسساتي متمثلا في التعويضات السخية وتقاعد الوزراء والبرلمانيين، فقبل دخوله الحكومة كان بنكيران يستشهد بمقولة عمر بن الخطاب “غرغري ولا تغرغري” لانتقاد هذا الريع المؤسساتي، أم اليوم فقد خرج علينا بعشرات الفيديوهات للدفاع عن التقاعد السخي الذي يأخذه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه يعرف في قرارة نفسه أنه لا يستحق تلك الأموال. حالة أخرى تكشف النزوع نحو تسييس ما هو شخصي تكمن في صور القيادية آمنة ماء العينين وهي دون حجاب وبلباس عادي يقال عنه “متبرج” (وذلك حقها في أن ترتدي ما تراه مناسبا لها)، ولما انهالت الانتقادات عليها لكونها ظهرت بهيأة أخرى غير تلك التي تسوقها في المغرب، خرج أتباع حزب العدالة والتنمية وقياداته أيضا منددين باستهداف هؤلاء للحياة الشخصية للسيدة النائبة، فعندما يتعلق الأمر بعضو ينتمي للحزب تجدهم مقتنعين بالحياة الخاصة، أما أولئك الذين هم خارج الحزب فإن الحياة الخاصة لا معنى لها في هذا الباب. تكمن الأزمة السياسية لحزب العدالة والتنمية في هيمنة تصور أخلاقي- ديني يعتقد بتوجيه الأخلاق للسياسي (إحالة على الفعل وليس الصفة)، والحال أن علاقة الأخلاق بالسياسي هي علاقة جدلية وليست قطعا تجزيئية، فإن كانت الأخلاق هي التي توجه السياسي وجب أن ذلك يكون حتى في أحلك الظروف متمثلة مثلا في الحرب، بحيث لا يجوز الكذب على العدو وإن كان سيهدد أمن البلد، أما وإن كان السياسي منفصلا عن الأخلاق فإن ذلك لا يعني ضرورة أن هذا السياسي غير أخلاقي، بل فقط أن ما يوجه هذا السياسي هو المصلحة كما تصورها الفيلسوف الألماني كارل شميث: مصلحة البلاد والشعب؛ تلك المصالح الكبرى التي تحفظ الحقوق الأساسية، هكذا فإن الأخلاقي لا يمكنه أن يكون فاعلا في السياسي إلا بما يتوافق مع حفظ المصالح العامة وليس العكس. *أستاذ جامعي كلية الآداب ظهر المهراز فاس



تاريخ النشر: 2019-04-02 13:59:00

الناشر/الكاتب:

Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية – تفاصيل الخبر من المصدر

نظام الارشفة الالكترونية